مرضى الأيدز في العين السخنة .. جالستهنّ وشربت من كؤوسهنّ!!

بقلم الدكتورة لينه الحمصي: منذ أيام عدت من رحلة لمنطقة العين السخنة في مصر. لا أنكر أنني استمتعت جداً بمناظرها الخلابة، وخصوصاً منظر الشمس وهي تشرق من خلف أمواج البحر الأحمر، وقد اكتست من اسم ذلك البحر لونها، شكّل مشهداً قلّما نجد مثله في مكان آخر.

لكنّ الزيارة لم تكن للاستمتاع بالشمس والبحر، بل لحضور مؤتمر لمكافحة الأيدز، قام به البرنامج الإقليمي للأيدز التابع للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وضمّ جمعاً غفيراً يقارب الستين شخصاً من أماكن شتّى، من ليبيا، السودان، تونس، المغرب، سورية، الأردن، موريتانيا، مصر.

من محاسن الصدف أن أغلب جلسائي على الطاولة التي اخترتها كانوا من المصابين بالإيدز ((السيداHIV )) ، أقول من محاسن الصدف، لأنّ هذا الجلوس وما أعقبه من محادثات ومشاركات في التدريبات التي كان يقوم بها المشرفون على المؤتمر، منحني نظرة مختلفة للأمور…

كنّا في بعض الأحيان نتبادل أنا وبعض المصابات تحية الصباح أو المساء مصافحة باليد أو قبلة في الوجه، وربما أخطأت في انتقاء كأس الماء المخصص لكل منّا، فشربت من كأس كان أحد المصابين قد شرب منه قبلي. لا أنفي أنني شعرت بشيء من الحرج والخوف بادئ الأمر، ولكنّ الفرحة المرسومة على وجوه هؤلاء المصابين، والأمل المتسرّب إلى نفوسهم، جعلني أنتزع ذلك الحرج والخوف من قلبي، وأفتح نفسي ومشاعري أكثر فأكثر للاندماج والتفاعل معهم، خصوصاً بعد ما علمت أنّ مرض الإيدز لا ينتقل عن طريق الهواء أو الملامسة، وأنّ انتقاله ينحصر عبر طرق ثلاث: العلاقة الجنسية، ونقل الدم، والحمل والولادة والرضاعة.

تعمّقت الصحبة بيني وبين بعض المصابات، وبدأنَ يسردن على مسامعي قصص إصابتهنّ بالمرض، وقصصاً أخرى لأناس يعرفنهم، هذه القصص ذات الأسباب المتنوعة لانتقال المرض بدءاً من ارتكاب الفاحشة، ومروراً بنقل الدم الملّوث، وانتهاءً باستخدام حقن المخدرات الملوثة بذلك الفيروس اللعين.

فظيعة هي المعاناة المزدوجة التي يلاقيها المصابون جرّاء الآلام الجسدية التي يسببها هذا الفيروس الذي يلتهم الخلايا المناعية في الجسد، فيصبح الإنسان عرضة للإصابة بالأمراض الانتهازية، كالسرطان والسل والأمراض الجلدية والتناسلية.

وإضافة إلى هذه الآلام الجسدية هناك الآلام النفسية التي يعانيها هؤلاء المصابون نتيجة النبذ، والوصم، والطرد من المجتمع عموماً، والأسرة خصوصاً.

قالت لي إحدى هاتيك المصابات بصوت مفجوع بائس:

– لقد رفض والدي رؤيتي خوفاً على نفسه من أن يصاب بالإيدز، وإذا صادف أن رآني يوماً ما في الطريق؛ فإنه يدير وجهه وكأنّه لا يعرفني.

أردفت صديقتها:

– أغلب الناس ينظرون إلينا نظرة ازدراء وحقد وتشفٍّ، والبعض ينظر إلينا على أننا حثالة يجب تصفيتها من المجتمع بأيّ طريقة.

قاطعتها الأولى بقولها:

– شيء فظيع أن يدين الإنسان أخيه الإنسان، شيء رهيب أن ينصّب نفسه قاضياً باسم الإله، يحيل هذا إلى جنّة الخُلد، وذاك إلى جهنّم وبئس المصير، وشيء مريع أيضاً أن يظلّ يحمّله عار ما جنته يداه أحياناً، أو ما لم تجنِ يداه أحياناً أخرى.

مصابو الإيدز نوعان لانوع واحد، أول هذه الأنواع من سوّلت له نفسه ارتكاب الفاحشة يوماً ما فأقدم عليها، فكان ما كان، وصار ما صار.

ولابدّ لهؤلاء المرضى جسدياً ونفسياً أن يجدوا أمامهم من يمدّ إليهم يد المعونة لينتشلهم من مستنقع الرذيلة إلى عبق الفضيلة، من يفتح لهم آفاق الرحمة والتوبة، من يداوي جراحهم ويلملم دموعهم، من يأخذ بأيديهم إلى دروب الفلاح والنجاح والعمل البنّاء.

أما النوع الثاني من المصابين، فهم أناس طاهرون، لم يعرفوا الرذيلة يوماً ما، ولكن شاءت أقدار السماء أن ينتقل إليهم فيروس الإيدز، إمّا عن طريق نقل الدم، أو عن طريق العلاقة الجنسية بين الزوجة السليمة والزوج المصاب. وكلا النوعين بحاجة أيضاً إلى أن يجد لدى المجتمع رحمة لا إدانة…

عدد كبير من سكان العالم يبلغ /40/ مليون نسمة مصابون بالإيدز، حسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 2004م، وقريب من /600/ ألف شخص منهم يعيشون في العالم العربي…

وهذا العدد الكبير من المصابين في العالم عموماً، والعالم العربي خصوصاً، يزيد من تحفيزنا على ضرورة معالجة أسباب هذا المرض من جانب، وضرورة مدّ يد المعونة للمصابين به، وإزالة الوصمة والتمييز والعار من جانب آخر، وهذا ما يقوم به فعلاً البرنامج الإقليمي للإيدز في الدول العربية، والذي تشرف على برامجه وسير أعماله الدكتورة خديجة معلا، وهي امرأة تونسية الأصل، عربية الجذور، مسلمة الانتماء، تقوم بمساعدة فريق عمل يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء والفعالية والمواهب المتعددة، بعقد ندوات ومؤتمرات ودورات تدريبية للقادة الدينيين؛ مسلمين ومسيحيين، من أجل مكافحة الإيدز، والعمل على كسر حاجز الصمت حوله، على اعتبار أنّ القادة الدينيين (( أئمة المساجد وخدّام الكنائس )) هم شريحة هامة في مجتمعاتنا الشرقية المتديّنة، فهم الأقدر والأجدر على التواصل مع الجماهير الشعبية، والوصول إلى قلبها وعقلها وسلوكها، من خلال القيم والمبادئ الدينية التي تحثّ على العفّة والفضيلة والرحمة، والتي تعدّ عاملاً هاماً يمكن من خلاله وقف انتشار هذا المرض، إضافة إلى القضاء على الوصم والتمييز المرتبطين به.

كان مؤتمر القاهرة للقادة الدينيين في الدول العربية الذي انعقد في القاهرة في الفترة ما بين 11_13 كانون الأول (( ديسمبر )) 2004 من أهم الأعمال، حيث حضره أكثر من /80/ قائداً دينياً من /19/ دولة عربية، من بينهم الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر، والدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر، والشيخ تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين، وشخصيات مرموقة أخرى.

ومن أهم ما تمخّض عنه هذا المؤتمر: إعلان القاهرة للقادة الدينيين حول الإيدز، الذي حظي بتوقيع جميع المشاركين، إضافة إلى إعداد دليلين يحتويان على مجموعة من دروس ورسائل دينية حول طرق مكافحة الإيدز، وكيفية التعامل مع المصابين، أحدهما للأئمة المسلمين، والآخر للخدّام المسحيين، يكون مرجعاً أساسياً لهم في مسيرتهم الهامة والجادة للوقوف في وجه هذا الفيروس.

وإذا ما كان مؤتمر القاهرة بداية الانطلاقة المباركة لتوعية القادة الدينيين حول دورهم في مكافحة الإيدز، فإنّ هذه الخطوة تلتها خطوات أخرى، إحداهما في دمشق 9–12 /8/2005، ومبادرتان في مصر أولاهما في 13-16 كانون الأول (( ديسمبر )) 2006، وثانيها في 4-7 أيار (( مايو )) 2006، وهناك مبادرة هامة ستنعقد في ليبيا- طرابلس في الثامن والعشرين من أيار الجاري خصصت للقائدات الدينيات في العالم العربي، إيماناً من هذا البرنامج بدور المرأة وأهميته في المجتمع، وأخرى في القاهرة في شهر تموز ((يوليو)) القادم، حيث من المقرر أن يحضره /300/ قائد ديني من أغلب الدول العربية.

والسؤال الذي يطرح نفسه:

هل أعقب هذه الدورات والمؤتمرات آثار فعلية ملموسة على أرض الواقع؟ أم بقيت فعاليات هذه المؤتمرات وستبقى حبراً على ورق، شأنها شأن أكثر المؤتمرات التي تغطي الكثير من هموم العالم العربي والإسلامي؟

سؤال مفتوح ينتظر الإجابة….