صاحب المنزل أبو مصعب يطرق عليها الباب بشدة، تفتح له الباب، فيمطرها بوابل من المسبّات والشتائم، يرفع يده في وجهها مهدداً، وقبل أن يدير لها ظهره، يقول لها بغضب وحقد:
– إن لم تتركي المنزل أنت وأولادك هدمته فوق رؤوسكم، أنتم وباء، أنتم مصدر الشرور والآثام.
نفس الصورة التي تحدث لها في الواقع كل يوم (قصة أبي مصعب وتهديداته)، كانت تزورها مرة أخرى في أحلامها، الشيء المختلف اليوم في حلمها، هو وقوفها في وجه أبي مصعب وتحدّيها له ودعاؤها عليه:
– أصابك الله بمثل ما أصابني به أنت وزوجتك وأولادك.
جنّ جنون أبي مصعب، وهرول ناحية أم حسن، وأمسك بتلابيب عنقها بكلتا يديه، أحست بروحها تكاد تزهق، ولم تعد تعي شيئاً مما هو حولها..
تساءلت أم حسن عندما أفاقت: أيمكن للحلم أن يصبح واقعاً؟ أتكون نهايتها فعلاً على يد أبي مصعب؟
مشاقّ الحياة
تذكرت زوجها أبا حسن منذ أن تزوجته لم تشعر معه أبداً بالاستقرار أو السكينة، كان بحكم عمله ضابطاً على الحدود، يغيب عنها فترة الشتاء، ويعود إليها في فترة الصيف، تسع سنوات أمضتها معه على هذه الحال، كابدت فيها ما كابدت من مشاقّ الحياة، اضطرت أن تعمل مدرسة للغة الانكليزية لتساهم في سدّ حاجيات الأولاد ومتطلبات الحياة الكثيرة، ثلاثة أولاد أنجبتهم والحياة بينها وبين زوجها على هذه الحال، كانت العلاقة الزوجية بينهما علاقة روتينية جافة، ولم تكن تشعر تجاهه بالحب والشوق، ولكنها كانت تنتظر مجيئه من أجل الأولاد ومن أجل ردّ ألسنة المغرضين والمتقوّلين..
بعد تسع سنوات من الغربة عاد أبو حسن إلى بيته وزوجته وأولاده ليستقرّ بينهم صيفاً شتاءً، هيّأت أم حسن نفسها لتغيير ذلك الروتين السقيم بينها وبين زوجها، بدأت تتحبّب إليه، وبدأ هو يتجاوب معها، وبدأت الألفة والمحبة تجذب بين قلبيهما، عندها أدركت أم حسن معنى المثل القائل: بعيد عن العين بعيد عن القلب….
سنة مرّت تحسّنت فيها العلاقة بينهما تحسناً ملحوظاً، ولكن الأقدار ضنّت عليهما بالهناء، بدأت صحة أبي حسن تسوء بشكل رهيب، في البداية كان سعالاً قوياً متكرراً، لكنه بعد ذلك صار يلفظ قطع الدم مع السعال، أخبرهما الطبيب بعد فحوصات عديدة وتحاليل مخبرية بمرض أبي حسن سلّ + إيدز.
صدمة حقيقية
كان هذا الخبر صدمة حقيقية لأبي حسن وزوجته، خصوصاً عندما أخبرهما الطبيب بأن الحالة المرضية المتطورة عند أبي حسن تشير إلى أنه أصيب بفيروس الإيدز منذ سنوات طويلة، وأن هذا الفيروس هو السبب في إصابته بمرض السل، وأنه من المحتمل أن تكون عدوى الإيدز قد انتقلت إلى زوجته وأولاده ، وأن عليهم أن يجروا فحصاً مخبريّاً بأسرع وقت ممكن…
أيام مرت عليهم كسنوات، وحان موعد استلام نتيجة الفحص: سلمى ولبنى سليمتان والحمد لله، ولكن أم حسن وابنها حسن مصابان.
لم يستطع أبو حسن مقاومة الصدمة فوقع فريسة الحزن والمرض واليأس والندم، لم يعد النوم يعرف إلى عينيه طريقاً، ونوبات السعال والدم الذي يصاحبها بدأت تزداد يوماً فيوماً.
لاتنسَ أم حسن الحديث الذي فاتحها به المشفى قبل يومين من وفاته، اعترف فيه بكل ما جنته يداه من آثام في السنوات التسع التي أمضاها بعيداً عنهم، السهرات الليلية المختلطة، المشروبات الكحولية، العلاقات الجنسية غير المشروعة.
ولا تنسى أبداً كلماته المختلطة بالدموع، وصوته اللاهث المتقطع:
– أرجوك يا سناء سامحيني اغفري لي…، وادعي الله أن يغفر لي.
أنا أحبك ياسناء.. كان هذا في الماضي فقط، ولكني منذ أن استقررت هنا، وتذوقت حلاوة الحلال، واستمتعت بدفء حبك وحنانك، تركت المعصية وتبت لله وندمت…
بعد يومين من هذا توفي أبو حسن وهو ما يزال في الأربعين من عمره، وترك خلفه ثلاثة أولاد، لبنى في التاسعة من عمرها، ورؤى في السادسة وحسن في الثالثة، وزوجة حسناء شابة في الثلاثين من عمرها.
وصمة العار
لا تعرف أم حسن كيف سرى خبر إصابة زوجها بالإيدز بين أهلهم ومعارفهم كانتشار النار في الهشيم، لم يشيع جنازته أحد، فقط صبيان الحي، كانوا يشيعونها ضرباً بالحجارة.
تنكّبت لها الدنيا بما فيها، طردت من عملها، هجرها أهلها وجيرانها وأصدقاؤها.
بعد ثلاثة أيام من وفاة زوجها، طلب حسن الصغير حليباً، فأرسلت أم حسن ابنتها لبنى إلى بائع الحليب في ناصية الشارع، بعد دقائق عادت لبنى خالية الوفاض، تبكي بصمت، سألتها أم حسن: – أين الحليب يا لبنى؟
أجابتها بصوت باكٍ يقطع نياط القلب: طردني البائع يا ماما، وأخبرني أنه لا يبيع الحليب للكلاب.. هل نحن كلاب يا ماما؟
أشدّ ما كانت تلاقيه البنتان الهجوم والشتم والسباب من قبل زملائهم في المدرسة، لم يكتف المجتمع بنبذ أبي حسن وأم حسن، بل امتدّ هذا النبذ والوصم والعار ليطال هاتين الزهرتين البريئتين النقيتين نقاوة الماء الزلال…
كانت أم حسن تلوك أساها وتجترّ أوجاعها كل يوم، ومـمّا زاد الطين بلّة أبو مصعب صاحب المنزل الذي تسكنه أم حسن مقابل أجرة شهرية ليست بالقليلة.
تهديداته وشتائمه اليومية كانت تزيد في أساها وآلامها..
تساءلت في سرها: متى يكفّ الناس عن ازدرائها وازدراء زوجها، واتهامها واتهامه؟
متى يفهمون أن أبا حسن لاقى جزاء ما جنته يداه في الدنيا، وأن حكم الآخرة متروك لرب الآخرة، وأنه لا يجوز لهم أن ينصّبوا أنفسهم بدلاً عن الإله يدينون ويحاسبون؟
ومتى يفهمون أيضاً أنه لا ذنب لها في كل هذا، وأن ما تعانيه الآن لا يمكن أن يكون عقوبة من الله، لأنها على يقين من عدالة الله ورحمته، فكيف يعاقبها إذاً على ما لم تجنه يداها؟!
وجه الطبيب
قطع عليها شريط ذكرياتها المرّة صوت ابنها الصغير حسن يناديها، قامت من سريرها مسرعة، عانقته وقبّلته، لاحظت حرارةً واضحةً في خده، مدّت يدها إلى جبينه فوجدته يلتهب من الحمّى، طار صوابها، لفتّه بدثاره، ثم حملته بين ذراعيها، وهرعت به إلى المشفى العمومي الذي طُبِّب فيه زوجها منذ شهرين تقربياً.
هناك في المشفى استقبلوه واستقبلوها بفتور شديد، ولكن هذا كان قبل أن يعلموا إصابته، ولما علموا بذلك انقلب الفتور إلى ذعر وخوف، وقادتها إحدى الممرضات إلى غرفة مظلمة في قبو المشفى، وأمرتها بلهجة قاسية أن تنتظر في هذا المكان ريثما يستدعي مدير المشفى أحد الأطباء المتخصصين بعلاج الإيدز.
بعد ساعتين فُتِح الباب، أطلّ وجه الممرضة قاتماً كقتامة قلبها، أمرتها أن تمشي أمامها، حملت أم حسن صغيرها المتخشّب، وقدماها لا تكادان تحملانها، وأخيراً وصلت إلى غرفة في آخر المشفى، نفس الغرفة التي مرِّض فيها زوجها، غرفة منعزلة لا يطرقها أحد، فقط وجه الطبيب، كلّ عشر ساعات مرة.
بعد نصف ساعة حضر الطبيب، عاين الصغير، وقال لها برقّة لم تعهدها أم حسن منذ وفاة زوجها:
– إن شاء الله سوف يشفى، وسيبقى هنا تحت المراقبة وبإمكانك أن تمكثي معه إن شئت.
صاحت بفزع: لا… لا أستطيع أن أبقى، ابنتاي وحدهما في المنزل، سأعود لأطمئن عليه.
ظلم الإنسان للإنسان
عندما اقتربت من منزلها هالها أن ترى ابنتيها في الشارع بجانب كومة الأثاث، لقد اغتنم أبو مصعب فرصة غيابها ليطردها من المنزل..
جلست أمام كومة الأثاث تبكي وبجانبها طفلتيها وشعور بالذل والانكسار والخوف يطغى عليهم، بعد قليل اقترب منهم ثلاثة رجال بدؤوا يرشون سائلاً أبيض فوق الأثاث، لم تستطع أم حسن أن تبعدهم عنها، وأدركت ما ينوون فعله، عندما أخرج أحدهم من جيبه كبريتاً وأشعل عوداً منه في يده، ثم ألقى به فوق كومة الأثاث، قامت أم حسن من مكانها مذعورة، وجذبت ابنتيها بعيداً عن النار..
خرجت من الحي منكسرة ذليلة، تمنت عندها لو أن لها أنياباً كأنياب الوحوش إذاً لقطعتهم جميعاً إرباً إرباً، وتمنت لو أنها تملك في فكّيها سماً كسم الأفاعي، إذاً للسعتهم ولم ترحم منهم أحداً..
وميض عينيه
لم تعرف أين تذهب..، ومضت في ذهنها فكرة، لماذا لا تذهب إلى بيت أهلها، لاشك أنهم سيغيرون موقفهم، فهي ابنتهم البارّة التي يحبونها ويحبون أولادها كثيراً، ولا يمكن لهم أن يرموا بها في الشارع تحت رحمة الجوع والبرد والخوف.
فتح أخوها الباب، استشفّت أم حسن من وميض عينيه أنه فرح لرؤيتها، أفسد عليهما فرحة اللقاء صوت أبيها من الداخل: من بالباب؟
قال رامز وقد بان في وجهه وصوته الخوف والتردد:
– سناء يا بابا.. سناء وأولادها أتوا لزيارتنا.
كلمات قاسية لم تكن أم حسن تتخيل في عمرها أن تسمعها من شخص غريب حاقد، فكيف بها تصدر من أحب الناس على قلبها:
– إياك أن تدع هذه الآثمة تدخل بيتنا.. أنا لا اعرف لي ابنة اسمها سناء..
سناء ماتت منذ شهرين..
امتقع لونها، وتقلّصت شرايينها، وشعرت بدقات قلبها تتوقف عن الخفقان.
رجعت القهقرى، ثم أسرعت الخطى بقدميها الواجفتين، وكلمات أبيها القاسية ما تزال تصكّ أذنيها:
– عاهرة.. آثمة… سناء ماتت..
أفكار شيطانية
مضت في طريقها لا تعرف إلى أين، شعرت بشلال من اليأس والحقد يتدفق إلى قلبها، استسلمت له هذه المرة، لم تقاوم ولم تناضل، أفكار شيطانية بدأت تستولي على عقلها..
تذكرت ابنها في المشفى..، ذهبت إليه، فوجئت بسريره خاوياً، أخبرها الطبيب بموته..
ابتلعت أم حسن ريقها وابتلعت معه دموعها، لا تدري أين هربت دموعها ولا تعرف لماذا؟
خرجت من المشفى وقد ازداد شعورها باليأس والذل والانكسار…
أمسكت بيد ابنتيها، وانتقت مكاناً جانبياً تحت أحد الأنفاق..
عشرة أيام مضت وأم حسن وبناتها يفترشون الرصيف، ويلتحفون البرد والهواء والسماء والخوف والقنوط.
كانوا يأكلون ما تبقى من فتات الأغنياء والفقراء، يلتقطونه من حاويات القمامة بعد أن نفدت الدراهم القليلة التي كانت أم حسن تحتفظ بها.
لم يستطع جسد رؤى الغض أن يحتمل البرد والجوع والخوف والجراثيم، وامتدت إليها يد الحمّى في ساعة من ساعات الليل الباردة، تعيث فيها كما عاثت في أخيها من قبل.
ساعات قليلة أسلمت فيها رؤى الروح، لم تستطع أم حسن أن تصدق الحقيقة، أمسكتها بكلتا يديها تهزها، لم تتجاوب الصغيرة معها، فقد كانت في عالم آخر…
نظرت أم حسن إلى الجثة الهامدة، وبدأت تضحك ضحكات جنونية غير متزنة، يتخلّلها بكاء حادّ، بدأت تدمدم بجمل متقطعة غير مترابطة ولا مفهومة:
– سأنتقم.. نعم.. سأنتقم لأبي حسن ولحسن ورؤى..
الإيدز.. كلهم يخافون منه دون أن يجربوه..
ولكني سأدعهم يجربونه، سأجعلهم يتذوقون من نفس الكأس التي ذقتها… ها… ها… ها…
أدارت أم حسن ظهرها ومشت مترنّحة كالسكرى، وصلت إلى سبيل الماء في زاوية الشارع، برميل خشبي كبير في أسفله حنفية ماء يشرب منها المارون في الطريق، رفعت غطاء البرميل بصعوبة، ثم استلّت من جيبها سكينة صغيرة، جرحت يدها، وجعلت تعصر الدم فوق الماء، وهي تضحك بجنون، لقد كانت تظنّ أن قطرات الدم، التي قذفت بها في برميل الماء، ستنقل مرض الإيدز إلى كل الذين سيشربون من ذلك الماء، ولم تكن تعلم أن مرض الإيدز لا ينتقل عبر الماء.
اقتربت لبنى من أمها، تعلّقت بثيابها، وهي تقول: أرجوك يا أمي.. اهدئي.. أنا بحاجة إليك..
لم تصل تضرعات لبنى إلى أذني أم حسن، كانت تدور في مكانها فرحة، وهي تقول بصوت مرتفع: لقد انتقمت لكم يا أحبابي… انتقمت لك يا أبا حسن.. انتقمت لك يا رؤى.. انتقمت لك يا حسن.
في تلك الأثناء مرّت دورية شرطة بالقرب منهما، لفت انتباههم تصرفات أم حسن، فتوقفوا هنيهة، سمعوا بعضاً من كلماتها، فأوجسوا منها خفية، اعتقلاها هي وابنتها، وهناك في المخفر لم يجد الضباط صعوبة في انتزاع اعتراف أم حسن، فقد كانت مسترسلة برواية قصتها دون أن يسألها أحد…
بعد أيام صدر الحكم في إيداع أم حسن في مصحٍّ عقلي، بعد عرضها على طبيب متخصص، ليتم علاجها جسدياً ونفسياً.
أما لبنى فقد أودعت في ملجأ للأيتام، بعد إجراء فحص دم جديد، تبـيّن فيه أنها ما تزال سليمة، لم ينتقل إليها مرض الإيدز.
وهناك في ملجأ الأيتام كتبت لبنى لإحدى الجرائد التي تعاطفت معها ومع قصتها:
” نطلب من جميع البشر الرحمة والمعونة…
لسنا كلاباً، ولا نستحق الرجم والعقوبة…”
وتمّ نشر قصة معاناة أم حسن وعائلتها مرفقة بصورة لبنى ووالدتها، ومزيَّلة برسالة لبنى، التي أرسلتها كلمة استعطاف واسترحام إلى كل من يملك في قلبه ذرة عطفٍ ورحمةٍ وإنسانية.
الدكتورة لينه الحمصي