عيشة السودانية.. لأنها امرأة تهوى الحياة هزمت الموت

صوفية الهمامي: بداية أعلن، وأعترف للقراء أنني هزمت في هذا الحوار، وأن ضيفتي صرعتني وألحقت بي شر هزيمة.
لن أقدم لكم ضيفتي التي تفوقت علي، يكفيها أنها أبكتني وكشفت هشاشتي. حتى عملي بالصحافة لسنوات، واستمتاعي بالركض خلف المستحيل، واكتشافه، ومعرفة الحقائق، والتوق والتوقد، والخيبة، والندم، كل ذلك لم يشفع لي مع السمراء السودانية عيشة.

كنت في القاهرة، لحضور المنتدى الإقليمي الثاني للقادة الدينيين لمكافحة الإيدز في الدول العربية. كنت ببهو الفندق عندما توقفت إلى جانبي الدكتورة خديجة معلى منسقة البرنامج الإقليمي للإيدز بالأمم المتحدة. قالت سأعرفك بسيدة عظيمة ستحبينها كثيرا، كانت إلى جانبها سيدة سمراء ممشوقة القامة، جميلة وجذابة المظهر، ابتسمت بخجل وسلمت، أضافت الدكتورة خديجة أقدم لك عائشة إبراهيم من السودان 37 سنة أم لثمانية أطفال ربة بيت لا تعمل وترعى أطفالها.

استغربت لماذا قدمت لي أم ياسمين هذه المرأة بالذات!!

انقطع حديثنا بدخولنا إلى قاعة المحاضرات، جلسنا، وإذا بي أرى السيدة السودانية تتصدر المنبر، استغربت ثانية وقلت كيف لربة بيت لا تعمل تجلس في مثل هذا المكان وتمسك بالمصحف. انطلقت في الحديث محذرة الحضور من داء الإيدز من خلال تجربتها. بحدسي الصحفي شممت رائحة حكاية مؤلمة تفوح وراء كلماتها. هنا انتبهت لقصد الدكتورة خديجة معلى .. ما إن انتهت الجلسة حتى ركضت وراءها ودعوتها إلى قهوة في صالون الفندق.

جلسنا، كنت أبدو ظاهريا لا مبالية وتبدو هي كذلك بل كنت اصطنع اللامبالاة ولكنها كانت طبيعية، كانت شاردة، صوتها متعب جدا غير أنه غني بالنبرات. وكان صوتي ينسل إلى داخلي. عيناها تلمعان تحت غشاوة بيضاء زادت في حزنهما غير أن الضحكة العالية التي كانت تفرجها من حين لآخر تمحي كل ذلك اللهيب الذي يحرقها دون رحمة وبشكل مرعب. شفتاها نهر من الوجع المر لكن الأسنان البيضاء الجميلة رسمت لطفا مرحا ينعكس على محياها وهي تتحدث.

من أين ابدأ

همست لنفسي كيف تراني أتسلل داخل ظلمات هذه المرأة وابدأ الحديث معها، إذ تبدو أعماقها منغلقة ولا يمكن المشي فيها. هل ستنهار إذا سألتها عن ذلك الإحساس الذي كابدته يوم عملت بما أصابها وسألتها.

قالت عيشة: “ليس سهلا أن أتذكر ولا أريد أن أتذكر يكفيني الركض في دوامة الحاضر ومدارات اللحظة ثم لماذا أتذكر؟ للتذكر معنى واحد لمن في وضعي هذا أتعلمين ما هو؟ النهاية، نهايتي مما عانيت من عذابات الماضي وأشباحه ومن مخاوفي من العذاب القادم”.

لم تكن عيشة تعلم أن زيارتها للدكتور لطلب العلاج لوجع لازمها لأيام معدودات لم تصبر على تحمله سيفتح أمامها بوابة العذاب. الدكتور شخص مرض عيشة على إنه حصاة بالكبد وتحتاج بالتأكيد إلى جراحة وعليها جلب أقرباء أو أصدقاء ليتبرعوا لها بالدم لضمان نجاح العملية.

عيشة أحضرت قارورتين من الدم تم حقنها بهما في انتظار أن تعود للمستشفى لإجراء العملية لكن ظروفها المادية حالت دون إجراء العملية لأنها لم توفق في جمع المبلغ المطلوب للمستشفى.

بعد تسعة أشهر بدأت عيشة تشعر بأعراض غريبة، حمى متواصلة وعرق ليلي وصداع لا ينقطع عندها قررت الذهاب لدكتور أمراض باطنية حولها بدوره إلى طبيب ثان وحولها الطبيب الثاني إلى ثالث وهكذا ظلت عيشة تخيط يوميا ممرات المستشفيات وتزور غرف الأطباء الذين عجزوا جميعهم على تشخيص مرضها ومرت الأيام طويلة ولم تتحسن حالتها بل ازداد إعياؤها ولم تعد قادرة على القيام بعمل بيتها والاهتمام بأطفالها. آخر دكتور زارته عيشة عملا بنصيحة إحدى الصديقات كان جراحا كبيرا بمستشفى ابن سينا اكبر مستشفيات الخرطوم.

أكد لها أنها معافاة من كل مرض والمذهل أيضا أن عيشة سليمة من حصاة الكبد. كل هذا لم يمنع الطبيب الجراح من توجيه عيشة إلى مخبر “أستاك” لإجراء التحاليل.

بعد شهر اتصل المخبر بزوج عيشة، سلموه النتيجة وطلبوا منه عدم معاشرة زوجته.

عاد الزوج المكلوم إلى بيته ليواجه وابلا من الأسئلة من أم أولاده.

مواجهة الحقيقة

تقول عيشة :”نعم أنا افهم زوجي، بعد العشرة الطويلة، قرأت في عينيه شيئا يخفيه عني، فزاد إصراري لمعرفة حقيقة مرضي، حاصرته بأسئلتي وببرود تام وإيمان حقيقي قلت له أنا مستعدة لمواجهة أي مرض وكنت أظنه سيقول لي إني مصابة بسرطان، لكنه انهار أمامي باكيا، واقسم لي إني معافاة من مرض السرطان” وطلب مني في اليوم الموالي مرافقته للطبيب.

“مليون و923 دينارا سودانيا تكلفة الدواء! ما هذا المرض الذي أعانيه أيها الحكيم؟ ” سألت الطبيب باستغراب.

“هذا الدواء لن يشفيك أبدا ولكن يمكنك أن تعيشي فترة لا بأس بها”: هكذا رد الحكيم.

” لن أشفى أبدا” صرخت في وجهه؟؟.

اخترق صوته قلبي ورأسي.

قال : “لا تعرفي أم تتغابي”.

قلت : “لا أعلم والله العظيم”.

“الإيدز… أنت مصابة بالايدز، أين زوجك ؟ هل أنت متزوجة؟ “.

“هذا زوجي وارتميت على كتفه أبكي ” قالت عيشة “من أين جاءني الإيدز وأنا لا أغادر المنزل أساسا وفي رقبتي سبعة أطفال”.

حينها التفت الدكتور إلى زوج عيشة سائلا :” ماذا تعمل ؟

“سائق” رد الزوج.

“أكيد انك ذهبت إلى أوغندا أو الحبشة للعمل، وأكيد أيضا انك لم تكن زوجا ملتزما وجلبت المرض من هناك”.

عيشة كانت متألمة جدا من موقف الطبيب الذي ظن بها السوء، إذ بدت عليها العصبية وكان وجهها يحتقن من الانفعال وأنفاسها تتسارع وهي تتحدث بازدراء عن هذا الحكيم الذي فجر القنبلة في وجهها دون رحمة مشككا في أخلاقها وسلوكها وهي المتزوجة منذ سن الثالثة عشرة وابنتها الكبرى تبلغ من العمر 17 سنة.

أوقفتها بسؤال :”يا عيشة ألم يشك زوجك فيك ؟

“أبدا.. أبدا ولو للحظة. الثقة بيننا لا حدود لها، استغفر الله العظيم، في تلك اللحظة شككت في سلوك زوجي، وقلت ربما غواه الشيطان وهو بعيد عني، لكن زوجي أصر على التزامه وانطلق في البحث عن الحقيقة فبعد أن قام بعدة فحوصات أثبتت انه معافى تماما من الفيروس قرر معرفة سبب إصابتي مستبعدا بطبيعة الحال شكوك الطبيب الذي ظن إنني امرأة مستهترة ربما خنت زوجي. وتوصل زوجي بمعية الأطباء إنني احمل فيروس الإيدز عن طريق نقل الدم. ”

دخلت عيشة في عزلة تامة وحبست نفسها في غرفتها رافضة مقابلة إخوتها وأخواتها، أما أولادها المساكين فكانت تعاملهم بقسوة شديدة وهستيريا إذ كانوا يرصدونها عندما تقصد غرفة الحمام ليرتمي احدهم في حضنها لكنها كانت ترميه بعنف لتبعده عنها، شراسة الأمومة كانت تحكم عقلها خوفا من أن تنقل لهم العدوى. إلا أن الزوج كان متفهما لحالة رفيقة دربه وانطلق يبحث عن طريقة يعيد بها الثقة لعيشة لتواصل حياتها بين أطفالها.
“الأخت ماركوني” العاملة في البرنامج القومي لمكافحة الإيدز في الخرطوم كانت ملاذ الزوج الذي سارع في نفس اليوم الذي تعرف فيه على الأخت المسيحية نفيسة ماركوني باصطحاب زوجته طلبا للنصيحة والمساعدة.
غير أن عيشة قابلت الاستقبال الحار بالشك وظنت أن هذا الاهتمام ما هو إلا ترويض وطمأنة تمهيدا لحقنها وقتلها وإبعادها عن أطفالها.

“أي والله الست كانت تعاملني بشكل مختلف، غريبة يعني، إذا الدكتور شكك في شرفي وشرف زوجي واتهمنا بالزنا استغفر الله العظيم”.

بعد ساعة تقريبا بدأ الاطمئنان يدب إلى قلبي، وأحسست بصدق الأخت ماركوني خاصة عندما شربت من نفس القارورة التي كنت اشرب منها وأكلت من صحني وأفهمتني أن الفيروس لا ينقل إلا عن طريق الاتصال الجنسي أو من الأم المصابة إلى طفلها خلال فترة الحمل أو أثناء فترة الولادة أو خلال فترة الرضاعة أو نقل الدم وإحدى مشتقاته من شخص مصاب إلى آخر سليم بدون فحص، نقل الأعضاء (كالقلب والكلية) من شخص مصاب إلى آخر سليم بدون فحص. استعمال أدوات ملوثة بدم المصاب كتعاطي المخدرات بالإبر المشتركة، وشفرات الحلاقة الملوثة أو فرشاة الأسنان المستعملة وأدوات طبيب الأسنان غير المعقمة جيدا وأدوات الوشم وثقب الإذن والحلاقة والإبر الصينية غير المعقمة جيدا. وأكدت لي ان الإيدز لا ينقل من خلال المعايشة اليومية بين المصاب ومن معه أو عبر استخدام المرافق العامة ووسائل المواصلات واستخدام دورات المياه وحمامات السباحة ومشاركة المريض بالإيدز في طعامه وشرابه أو زيارة المستشفيات أو المخالطة الاجتماعية العارضة.

خرجت براحة نفسية وثقة كبيرة لمواصلة الحياة، يملئني الشوق لاحتضان أطفالي، كانت ليلة بديعة نمت وأطفالي السبعة في نفس السرير الذي ازدحم بنا، وكان زوجي يضحك، أحسست كأنني كنت في سفر عميق حرمني من رؤية أطفالي لدهور…”.

كنت أتخيل عيشة بحنانها الساحر الغريب وهي تحتضن أطفالها وتقبلهم وهم يتصارعون للوصول إلى حضنها وشم رائحتها، المشهد أمامي، دراما إنسانية حقيقية، لم أعد أرى عيشة ولا اسمعها وانطلقت في نوبة من البكاء المر… لم أفق إلا وعيشة تطوقني بذراعيها وتحتضنني بحنان وحب نبيل وتمسح دموعي بكفيها.

تواصل كلامها :”في اليوم الموالي قررت إعلام أولادي إنني مصابة بداء الإيدز عن طريق نقل الدم في مستشفى عمومي ومما شجعني أنهم تفهموا الأمر، أول تعليق جاء من ابنتي يسرية ذات 17 ربيعا بعد أن أجهشت بالبكاء سألتني :”متى يخرج هذا المرض من بيتنا ومن جسمك” قلت لها أنا معك إن شاء الله إلى أن تكملي الدراسة الجامعية وتتزوجي.

أما ابني البكر فكان يقفل على نفسه باب الغرفة ويظل يبكي بحرقة إلى أن أصيب بالغدة الدرقية من كثرة البكاء، أطفالي الصغار لم اقل لهم شيئا إلى أن علموا في ما بعد. الحقيقة أن الحزن زارنا وشبح موتي ارتسم في عيون أمي التي تركت بيتها وجاءت للسكن معي لتشد من أزري أما شقيقاتي فقد دخلن في حداد وأنا على قيد الحياة وانقطعن عن وضع الحنة والتزين.

ولإخراجهن من هذه الحالة الحزينة والكئيبة كنت أبادر أنا بالتزين لزوجي وألبس أحسن ما لدي من ثياب ووضع الحناء التي تبقى من أهم عاداتنا في السودان وكذلك الكحل، كما ترينني الآن.

الرباط المقدس

سألتها بخبث نسائي ألم تعاشري زوجك طوال هذه المدة يا عيشة ؟

بلى، ردت، طلبت من زوجي أن يتزوج ويعيش معنا وعروسه في نفس المنزل ليكون قريبا من أبنائه لكنه لم يقبل بل غضب مني كثيرا. قال :”لن أطلقك ولن أتزوج من يدري إن الأعمار بيد الله قد أموت قبلك”. وخير مواصلة المشوار معي حتى النهاية وبالمناسبة فهو الذي يشرف على كل الأعمال المنزلية خاصة أعمال المطبخ.

بصراحة كنت رافضة للجنس تماما حتى بالعازل خوفا على زوجي من العدوى، ليتولى تربية الأطفال من بعدي.

المرة الأولى التي التقيت فيها بزوجي على فراش الزوجية كانت بعد أربع سنوات من إصابتي بالمرض، جاء ذلك اثر زيارتي للأخت ماركوني التي أقنعتني بنجاعة العازل في حماية زوجي ولكن.

تضحك عيشة بخجل، يتقاطر العرق من جبينها.

* أرجوك تكلمي ولكن ماذا ما الذي حدث ؟

– لقد انفلق العازل وتمزق ولم ننم ليلتها، بتنا نندب مستقبل أطفالنا.

هنا يحضر عامل استقبال الفندق وبعفوية المصريين يسأل عيشة :”حضرتك مدام عيشة إبراهيم”.

بلهجتها السودانية الرخوة وبرودة دم ترد عليه وهي تميل برأسها يمينا “أي نعم أنا”.

“تلفون يا أفندم”

تهمس في أذني : “سمعت يا صوفي مدام وحضرتي ويا أفندم أخ لو يعرف حقيقتي”.

تنزل السلم ركضا، تتعثر في ذيل “العباءة” المطرزة، أركض وراءها أكملي ماذا حدث لزوجك هل هو بخير، أرجوك يا عيشة أريد أن اعرف ماذا حدث هل نقلت له عدوى الفيروس.

“لقد حملت في تلك الليلة… سأعود انتظريني، دقيقتين، أكيد أبو العيال هو المتصل، لن أتأخر “.

يقول علي ابن أبى طالب كرم الله وجهه : “المال في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة “. ربما هذه المقولة تنطبق تماما على وضع عيشة داخل السودان.

فعلا لم تتأخر عادت وقد تخلص وجهها نهائيا من آثار تعابير المرح.

ارتمت على الكرسي وانطلقت في الحديث كقطار في طريق الذهاب أبدا ولم أشأ مقاطعتها حتى لا تنفعل…

“منذ اللحظة التي يبدأ فيها المرء ارتياد المنابر الإعلامية ونشر الوعي بين الناس فانه يبدأ بتدمير نفسه لان مجتمعنا في السودان لا يفهم ولا يرحم وأنا امرأة قررت ألا تمر تجربتي هكذا مجانا يجب أن أتكلم وأنبّه الشباب من هذا الداء، هل تعلمي أين أولادي وأدباشي وزوجي الآن ؟ إنهم في الشارع ويا عالم أين سينامون هذه الليلة… بإذن الله سينتصر الوعي على الجهل، يا رب انصرنا على القوم الظالمين”.

تنفجر ضاحكة، هاهاها… شر البلية ما يضحك، والله يا صوفي أنا سكنت تقريبا في جل بيوت الخرطوم وبمجرد أن يعلم صاحب المسكن بإصابتي بالإيدز يطردني وأطفالي إلى الشارع.

حينها قررت أن اخرج للمجتمع واصرخ لأبلغ صوتي للناس وأقول لهم احذروا نقل الدم ليس الجنس وحده سبب الإصابة بالايدز، قابلت صحفيين في السودان اجروا معي لقاءات كما سمحت لهم بتصويري أنا أشارك في برنامج توعوي في التلفزيون أتحدث فيه عن تجربتي مثلما فعلت هنا في هذا الملتقى. زيارتي إلى آلاف البيوت عبر الشاشة لا تتم من خلال بطاقات الدعوة لأنني لست زائرة عادية تردد الكلام المصطنع أنا امرأة نازفة لا ارغب في أن تتكرر تجربتي في شخص آخر حرام، لكن من المؤسف أن المجتمع يرفضني يستهجن ظهوري العلني ويخاف مني حتى على الجدران الإسمنتية وعلى الأبواب والنوافذ الخشبية. أما ظهوري في قناة الجزيرة فقد كلفني أن انتقل من الخرطوم إلى أم درمان بعد فصل زوجي من عمله. جيراني وما إن شاهدوني على الشاشة ركضوا إلى المدرسة مطالبين المدرسين بطرد أبنائي من المدرسة خوفا على أبنائهم من العدوى، في البداية تعامل المدير مع أبنائي “برحمة وحنان” فأمرهم بالجلوس على الأرض بعيدا عن باقي التلاميذ لمتابعة الدروس، رضينا بهذا الأمر وقلنا المهم أن يتعلموا لكنه أعاد النظر وطردهم في النهاية من المدرسة.

حينها قررت وزوجي الانتقال إلى أم درمان مدينتي التي ولدت فيها وبها أهلي أيضا. وهناك بدأنا مرحلة بؤس جديدة، أبنائي التحقوا بمدارسهم لكن زوجي لم يحصل على عمل والى يوم الناس هذا، فاضطررت لطرق أبواب الخير بحثا عن ثمن الدواء لي والخبز لأولادي، إلى أن وصلني عرض فرحت به كثيرا وهو التحدث عن تجربتي مع مرض الإيدز في شكل محاضرات توعوية يقدمها دكاترة محاضرون في الجامعات السودانية وبمقابل فقبلت دون تردد، ولكن النتيجة كانت خروجي من أي بيت اسكن فيه ومع كل عملية طرد أزداد إصرارا وعزيمة. سأبحث ربما على مقبرة للأحياء أسكن فيها مع أولادي وزوجي.

ولادة رحيمة لرحمة

كنت أحدق فيها كما لو إنني لم أر امرأة من قبل كيف لامرأة أمية لا تقرأ ولا تكتب أن تلملم نفسها المبعثرة و تضاحك المرض وتناغيه وتبكيه وتصرفه من فكرها وتلتحف بألوان الحياة وتتحدى الجهل وتقول بأعلى صوتها أنا هنا أعيش رغم كل شيء.

سألتها أرجوك ماذا حدث لزوجك وكيف حملت ؟

ردت : وأنجبت أيضا، وسيمت مولودتي الجديدة “الثامنة” رحمة لأنها نزلت رحمة من رب العالمين. الدكتور أخبرني إن دواء الإيدز يوقف العادة الشهرية، فلم أهتم بالأمر، كان كل اهتمامي مركزا على زوجي الذي كان عليه إعادة التحاليل مرّات عديدة للتأكد من العدوى ولكن بمعجزة من عند الله أثبتت النتائج انه معافى ولم يتسرب له الفيروس اللعين.

أما حملي فاكتشفته اثر كشف روتيني،اندهشت عندما سمعت الدكتور يقول “مبروك يا مدام أنت حامل”. قلت سبحان الله قادر على كل شيء وفعلا أنجبت رحمة اثر عملية قيصرية ولم أرضعها أبدا مع إن الدكتور نصحي أن ارضعها مدة ستة أشهر ولكن خوفي عليها منعني وهي الآن تضيء البيت وتؤنس إخوتها وعمرها الآن سنة ونصف.

* قلت أتضحكين يا عيشة وأنت ستموتين حتما ؟

– طبعا اضحك واستمتع بالحياة الجميلة وبأولادي ونجاحهم في دراستهم الأعمار بيد الله لا احد يموت ناقص أو زائد يوما…

* ما هو أصعب شيء يعانيه مريض الايدز؟

– المأوى، قد يستغني عن الأكل والشرب ولكنه لا يستغني عن مكان يرتاح فيه !…

عيشة أقنعتني أن الألم هو نتيجة للوعي، وعلمتني كيف يكون الألم مواجهة أو لا يكون تبدأ بمواجهة الواحد منا لداخله وكشف وجهه الحقيقي.

عيشة بفلسفتها التلقائية ذكرتني أن الشيء الوحيد الكامل هو الموت ولكي تمتلك القدرة على هذا الكمال فعليك امتلاك القدرة على العيش، لان من لا يعيش الحياة عميقا لا يكون لموته معنى بما أنه كان حيا / ميتا.
وأنا أودع عيشة أحسست أنني أخذت من عمرها، كنت انظر إليها بعمق لاختزن ملامحها في قلبي قدر ما استطيع.

قلت لها :”عيشة أنت قصيدة شعرية نسي الشاعر وضع عنوانا لك”.

ابتسمت في حزن وقالت سامحه الله سأضع العنوان فوق قبري “عيشة إبراهيم”

* ترى هل سأراك ثانية يا عيشة ؟؟؟

– أكيد سترينني يا صوفي… ربما في وجه رحمة…

شكرا لك عيشة على هذا الدرس الحياتي.

____________________

نقلا عن موقع الجيل الليبي على الانترنت بتصرف بسيط – الحوار منشور بتاريخ 13 مايو 2009