الأب إليان وهبة: جهود هارباس للتجاوب مع قضية الأيدز زادت من اللحمة بين المسلمين والمسيحيين

على الرغم من كونه طبيب لم يكن لديه المعلومات الكافية حول فيروس الأيدز وأحوال المتعايشين مع فيروسه، لقد توفر له ذلك، فقط، عندما انخرط في أنشطة البرنامج الإقليمي للأيدز في الدول العربية (هارباس) المعني بجهود التوعية بالمرض وإزالة الوصم والتمييز ضد المتعايشين مع فيروسه.لقد كشف لنا الأب إليان وهبة من بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في حوارنا معه كيف أسهم هارباس في تزويده بالمعلومات والمعارف الضرورية عن المتعايشين مع فيروس الأيدز، وكذلك الفئات الأكثر عرضة للإصابة به، كما بين كيف زاد الأيدز من اللحمة القائمة بين رجال الدين المسيحي والإسلامي، عندما حرصت هارباس، ومنذ الوهلة الأولي، على توحيد كل الجهود من أجل التجاوب مع مشكلة مجتمعية من هذا النوع.

 

هارباس التقت الأب إليان على هامش فعاليات الاجتماع الأول لمجتمعات الفعل وقيادات الشبكات العربية في مواجهة الأيدز من أجل تصعيد التجاوب، والمنعقد بالقاهرة (مصر)، في الفترة من 30 – 28 إبريل 2009، فكان لنا معه هذا الحوار الهام والمفيد.

أجرى الحوار أحمد بلح :

ضمن أى إطار، تأتي مشاركتك فى هذا الإجتماع المقام هنا بغرض تفعيل التعاون والتشبيك بين الشبكات العاملة في مجال الأيدز؟

تأتي ضمن مجموعة من الأنشطة التى يقوم على تنظيمها البرنامج الاقليمي للأيدز في الدول العربية والتى تسعى إلى تفعيل دور القادرة الدينيين فى مواجهة فيروس الأيدز في المنطقة العربية.

منذ متى بدأ إنخراطك في مجال التجاوب مع قضايا الأيدز وجهود الوصول للفئات الأكثر عرضا للإصابة؟

جاءت البداية في ورشة العمل المقامة في دمشق عام 2004 بغرض إطلاق مبادرة إقليمية لرجال الدين في مجال الأيدز تهدف إلى تفعيل دورهم بشآن مواجهة انتشار فيروسه، وكانت بالفعل إحدى أهم الورش التى حضرتها أنا شخصياً، من حيث الإفادة وإدركنا كرجال دين مدى حجم خطورة هذا الوباء بعد الاطلاع على الإحصائيات المقدمة من قبل منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية واليونيسف حول أعداد حاملي فيروس HIV، وكيف أصبح هذا الخطر قريب جداً منا، ويكاد يصل العدد المحتمل إلى مليون مصاب فى منطقتنا العربية، وهنا أدركنا ضرورة إطلاق مبادرة شجاعة و رائدة تكون فاعلة خاصة بين رجال الدينيين الإسلامي والمسيحي، تترجم مسئولية هؤلاء القادة كمصدر للثقة، وكمصدر للتوعية، وكمصدر لتحسس المخاطر، وتنبيه أبناء المجتمع وبخاصة الشباب لأن هذا المرض يستهدف طاقة الشباب، بما قد يؤدي لحرمان هذا المرض – إذا انتشر- أى مجتمع من شبابه، الفئة المنتجة، ومصدر الحيوية في أي مجتمع. لقد كانت المشاركة بهذه الورشة كفيلة بأن نشعر بالخطر وبأن نستشعر مسئوليتنا، وبضرورة الإلتزام تجاه تفعيل وتوعية كافئة فئات الشعب إبتداءاً من رجال الدين المسيحى إلى الشباب فى الكنسية إلى الشباب الذين نلتقى بهم فى المناسبات والأعياد وإلى كافة الفئات عن طريق وسائل الاعلام المختلفة كالإذاعة والتليفزيون وكذلك الندوات اللى تناولنا فيها هذه القضية بهدف تحقيق التوعية، وكون المرض موجود، والوقاية منه واجبة بناء على ما جاءت به التعاليم الدينية بأن الإنسان والصحة الممنوحة إليه أمانة يجب عليه أن يحافظ عليها، بالإضافة إلى أنها عطية من الله سوف يحاسب عليها لأنه أساء استخدامها. ومن المقولات التى تخص المسيح وترتبط بما نتحدث عنه ” لا تجرب الرب إلهك”، فيجب على الإنسان أن يعى مسئولياته، وأن يحفظ حياته وحياة الآخرين، لا أن يكون سبباً فى انتشار هذا الوباء.

من 2004، حيث كانت البداية، وحتى الآن في 2009، ومن خلال مجموعة الأنشطة المتوالية والمستمرة في هذا الجانب، كيف ترى الصورة، وما مدى التغير الذى حدث بالنسبة لرجال الدين للتعاطي مع قضية هامة مثل قضية الأيدز في المنطقة العربية؟

حقيقة هناك تغير ملحوظ حدث، يمكننا أن نقيمه بأنه تغيرعلى درجة كبيرة من الأهمية، ويمكنك أن تلحظ ذلك اذا علمت أن عدد رجال الدين الذين شاركوا فى ورشة دمشق كان قليل نسبياً، فى حدود 35 قائد ديني، ولكن فى مؤتمر القاهرة من ذات العام كان هناك قرابة 80 رجل دين أو قائد دينى مسيحى ومسلم، كما أن تغيراً كبيراً أهم حدث داخل نفوسنا كمسلمين ومسيحين. لقد سادت بيننا لغة الحوار، وتراجعت الاختلافات، فقد وجدنا أنفسنا على السواء في خندق واحد نواجه فيروس يهاجم شبابنا ومجتماعتنا، فادركنا أن الدين حقيقة والإيمان عامة هو من أجل الخير، وخلاص الإنسان، ومن أجل أن يكون الإنسان فى حياته صحيحاً ومعافى لكى يتعبد الله الخالق فى فترة وجوده على الأرض، فوجدنا كثير من التغير، والكثير من نقاط الاتفاق بين المرجعيات الإيمانية والدينية من مختلف الأديان والمذاهب، وجدنا أنفسنا نقف سويا لنواجه هذا الفيروس، إيماناً بالله، وإيمانا بالكتب المقدسة وإيمانا بقيمة الإنسان الذى هو محط محبة الله وعنايته.

على المستوى الشخصى، هل التغير طال حضرتك فى ضوء المعلومات العلمية التى كشفت لك، والإطلاع على التجارب الحياتية للمتعايشين مع فيروس الأيدز ومقدار ما يواجهونه من وصم وتمييز مجتمعي؟

طبعا هناك تغير ملحوظ بالنسبة لى أنا شخصياً، فعلى الرغم من أنى درست الطب لم يتوفر لى في يوم من الأيام الاقتراب من شخص مريض بالأيدز. ومن إحدى الفوائد التى وفرتها المشاركة فى هذه الورش الالتقاء مع والاستماع إلى أشخاص متعايشين مع الفيروس من مختلف الدول العربية والاطلاع على مدى ما يعانونه في حياتهم، فتعاطفنا وتعاضدنا معهم واحساسنا بمسئوليتنا تجاههم هام جداً. لقد تحدثوا إلينا بصدق فى شرح تفاصيل حياتهم وكيف وصل إليهم الفيروس، وكيف يعانون، وكيف أننا مسئولون أمام الله أن نمد لهم يد المساعدة على خطى المسيح، فكما يقول: “كونوا رحماء لأن أباكم رحيم” وكذلك عندما قال “لا تدينوا لكى لا تدانوا”، وعندما قال “من منكم بلا خطيئة فليرمى هذه بحجر” للمرأة التى ضبطت فى ذات الفعل، وذلك إدراكاً منا لقيم الرحمة التى يأمر بها الدين المسيحى والدين الإسلامى وكل الأديان، وجدنا نفوسنا متعاطفة مع هذا الإنسان المصاب، ومع هذا الإنسان المختبر، وأن من واجبنا أن نأخذ بيديه.

لكن التغير الأكبر الذى حدث لى كان نتاج التدريب الذي حصلنا عليه فى ورشات العمل حول مهارات التواصل وكيفية استنتاج النتائج حول تغير سلوكيات الحياة، فقد أضافت لنا الكثير من الخبرات التى تعد الآن من أهم أسباب نجاحنا فى عملنا، وفى رعايتنا لهذه الفئات المجتمعية.

وما هى أبرز انعكاسات التعاون مع برنامج هارباس؟

أعتقد أن أبرز الانعكاسات كانت فى طريقة التفكير، حيث أصبحت أوسع وأشمل فى سبيل خلق الحلول والوصول لنتائج أفضل على مستوى رعاية هذه الفئات، وأعتبر أنى استفدت شخصياً من رعايتى لهؤلاء، كما أن لهذا مردود إيجابي في الوصول إلى نتائج مرجوة لخير العالم وخير المجتمع عندما استخدمنا مهارات التواصل والحوار التى تقود إلى أفضل النتائج بأبسط وأقل التكاليف.

كطبيب متابع للمناهج الدراسية فى كليات ومعاهد الطب، هل تجدها كافية للتعاطي مع أمراض مثل الأيدز، أم أنها تحتاج إلى إضافات وتدعيم أكثر؟

المناهج الدراسية تقدم المعرفة العلمية أو النظرية ولكنها لا تكفى لتخلق إنسان يحب ويتعاضد مع الإنسان المريض ويشعر به، ويقف إلى جنبه، ويشعر بتداعيات هذا المرض لو انتشر لذلك فإن المناهج جيدة ولكن يجب تحديثها بشكل أفضل لكى تكون متواصلة مع مستجدات العلم بخصوص هذا المرض، وأيضا لكى تتمكن اكساب الأطباء الذين يتخرجون من كليات الطب المهارات لكى يتواصلوا بشكل أفضل مع المريض ومع المجتمع.

وهل كانت هناك أية انعكاسات أخرى على مستوى الأنشطة والفعاليات التى أسهمتم بها في هذا المجال؟

الأنشطة كانت تصب فى التوعية، أى فى الجانب الوقائى، لقد نظمنا ندوات فى قاعة ( كنيسة الصليب المقدس) شارك فيها أطباء مختصون باختصاص الأوبئة من وزارة الصحة، وشيخ ليعطى وجهة نظر الدين الإسلامى، وراهب ليعطى وجهة نظر الدين المسيحى بالإضافة إلى تعليقات مشتركة مع الجمهور، وكان هناك العديد من المحاضرات التى عقدت فى أماكن أخرى كثيرة. لقد كنا نحظى بأحاديث جانبية عديدة من الحاضرين، فهناك مخاوف لدى بعض الشباب الذين أتوا ببعض التصرفات الخطرة، فكان هذا يتيح لنا أفاق من الحديث والتعمق مع الشباب، ورؤيتهم وتوصيل رسالة مهمة من منظور إيماني للمحافظة على حياتهم، وعلى صحتهم، وعلى شبابهم وعلى ما أعطاهم الله من طاقة وحيوية، نسأل الله أن يستخدموها فيما يصب فى خيرهم بشكل أفضل.

هل تشعر كرجل دين بفارق فى التعاطي مع هذه القضية الآن، ومنذ قرابة خمس سنوات عندما بدأ إنخراطك في الفعاليات الخاصة بها لأول مرة؟

نعم نحن أبناء مجتمع، ثقافته وردود أفعاله تنعكس عليها الأفكارة المسبقة، فقد كنا ننظر إلى الأيدز على أنه مرض الشواذ والعصاه كما كنا نعتقد، لكن عندما اقتربنا أكثر من عمق المشكلة وجدنا أن الكل معرض للإصابة بفيروسه، والكل معرض لأن يكون ضحية له، أو قد يكون أحد أعز الناس إليه ضحية له، ومن المفيد جدا أن لا نسأل عن سبب الإصابة، فقد عرفنا أنه ينتقل على طريق الدم الملوث أو الأدوات الواخذة أو من الأم إلى الجنين بالولادة أو بالإرضاع، لكن المهم عندما نقف أمام المريض أن نقدم له الدعم الطبى، والدعم العاطفى، والدعم الوجدانى، وإنعاش الأمل والرجاء فيه لأنه الآن يحتاج إلى هذه الفسحة من العاطفة والعون الطبى والمادى. لقد تغيرت أنا شخصياً، وسار إن قابلت مريضاً لم أعد أنظر إليه ذات النظرة السابقة التى كانت موجودة من قبل أن تتوافر لى هذه المعلومات الدقيقة عن الأيدز. لم أكن أعرف ما هى تداعيات هذه النظرة وإلى مدى كانت تنعكس سلباً إذا رفضت المريض، أو إذا نظرت له باشمئزاز أو بدونية فهذا ربما يولد لدى الفئات الضعيفة الحقد، ويولد فيهم الرغبة في الإنتقام من المجتمع. لذا أدركت أهمية وضرورة التفاعل الإيجابى مع كل أبناء المجتمع، وبخاصة المتعايش مع فيروس الأيدز.

كيف ترى تجربة البرنامج الإقليمى للأيدز في الدول العربية من خلال حرصه على توحيد جهود كل القادة الدينيين على اختلاف طوائفهم، المسلم والمسيحى، الشيعى والسنى، الأرثوذكسي والبروتوستانتي؟ وكقائد دينى مسيحى، هل حدث تعاون بينك وبين آخر مسلم على مستوى القضايا التى تتعلق بالأيدز مثلاً؟ وهل امتدت هذه العلاقة لتطال مشكلات مجتمعية أخرى داخل سوريا أو فى أي مكان آخر بالوطن العربى؟

نعم، لقد حدث هذا النوع من العمل المشترك والتعاضد بيني كرجل دين مسيحى وآخر مسلم، مثلما كان دائماً هناك العيش المشترك القديم بيننا وليس الجديد فقط، لكن الأيدز زاد فى اللحمة، وجعلنا كيان واحد فى مواجهة الهم والعدو المشترك، وزادنا توحد فى تنسيق أنشطة تصب فى الخير العام، فى خير الإنسان. وأذكر، على سبيل الذكر، لما كنت أنا والشيخ علاء الحموي- قائد ديني سوري مسلم – عندما زرنا إحدى طلاب المدارس فى المرحلتين الإعدادية والثانوية لنلقى محاضرة تصب فى خير الشباب، لقد كانت الزيارة جداً ناجحة، وكانت مؤثرة فى الطلاب أكثر، لقد أحسسنا أن هناك ما نتفق عليه، انتابنا الشعور بضرورة التلاحم والتلازم، وتوحيد الجهود الإنسانية فى هذا المسار لمواجهة هذا الوباء.

وهل يلجأ إليك الشباب للاستشارة والاستفادة مما تكون لديك من معارف وخبرات حول نواحي وموضوعات تتعلق بالأيدز؟

نعم هناك الكثير من الشباب الذين يقدمون إلى ليشرحون تجاربهم، ونحن بالكنيسة عندنا الإعتراف، من يسقط فى الخطيئة لا ييأس من رحمة الله، السيد المسيح له المجد قال للرسل “خذوا الروح القدس ما أخذتم خطاياتكم متى حللتموها حلت”، فلذلك فى الكنيسة سر اسمه التوبة والاعتراف من خلالها يلجأ المؤمن إذا كان شاب أو شابة، إذا كان رجل أو امرأة، إذا ما تعسرت خطواته وسقط فى تجربة، يأتى ويسترشد أو يطلب التوبة أو الاعتراف، وهذا ما نقدمه فى كنائسنا وخاصة فى زمن الصوم (صوم الأربعين المقدس) قبل عيد الفصح، فهذه فرصة للإنسان كى يتوب ويغير حياته ويتقرب من ربه، فهذا فرصة مهمة من خلال الصلوات، ومن خلال التوبة والاعتراف، و وسيلة هامة جداً توصل الإرشاد لشريحه مهمة جداً، وخاصة الشباب.

ولكن إلى أى مدى يكون الإقبال عليك كقائد دينى للاعتراف فى أمر كهذا، وما تفسيرك لذلك؟

هو فى تصاعد، لأن المؤمن يزداد ثقة عندما يكون رجل الدين يملك أى معلومات علمية دقيقة، بالإضافة إلى قدرته على التوجيه الروحى، لذلك لاحظنا ازدياد فى عدد من يسألون ويستشيرون فى موضوعات تتعلق بهذه القضية.

طالع السيرة الذاتية للأب إليان وهبه